• نقل الأعضاء من إنسان إلى آخر

    1- هل تجوز الوصية بقطع عضو أو جزئه من الميت إذا أوصى بذلك أو بموافقة عصبته؟

    2- هل ينطبق على هذه الوصية المعنى الشرعي أو القانوني أو اللغوي؟

    3- هل يجوز تبرع إنسان حي بعضو من أعضاء جسده لشخص آخر مهدد بالموت أو التبرع ببعض دمه؟ وما معيار ذلك؟ وهل يجوز اقتضاء مقابل مادي في نظير العضو أو الدم المتبرع به؟

    4- هل يمكن نقل عضو من ميت دون وصية منه أو ترخيص من ورثته؟ ومن أصحاب الحق في هذا الترخيص شرعًا؟

    5- ما هو التعريف الفقهي للموت؟ ومتى يعتبر الإنسان ميتا؟

    6- شق بطن من ماتت حاملا وجنينها حي، وما إذا مات الجنين في بطن أمه، شق بطن الميت لاستخراج ما يكون قد ابتلعه من مال قبل وفاته وآراء الفقهاء في ذلك، والرأي المختار في الفتوى.

    7- ما حكم المفاضلة بين عدد من المرضى تساوت حالتهم المرضية في وجوب نقل عضو أو نقل دم مع عدم وجود أعضاء أو كمية من الدم أو الدواء كافية لإنقاذ الجميع؟

    8- ما حكم الإسلام في استعمال الأجهزة الطبية التي تساعد على التنفس والنبض مع التأكد من موت الجهاز العصبي؟ اطلعنا على الطلب المتضمن أنه: قد انتشر في بلاد الغرب التبرع أو الإيصاء ببعض أجزاء الجسم بعد الوفاة خدمة للمرضى المحتاجين إليها كالكلى والقرنية وغيرهما، ويطالب بعض الأطباء في مصر بنقل هذا التقليد النافع، وإن للسائل رغبة في مساعدتهم للاعتبارات الإنسانية، إلا أنه يخشى أن يكون في ذلك مخالفة لتعاليم الدين أو امتهان للجسم البشري.

    كما اطلعنا على الطلب الذي جاء به: إن لدى السائل رغبة في كتابة وصية نصها: «أتبرع بجسدي بعد الوفاة لمشرحة كلية طب جامعة الأزهر للاستفادة من الأعضاء السليمة إذا لزم الأمر لزراعتها للمحتاجين إليها من المسلمين أو للاستفادة بها بقسم التشريح للدراسة العملية لطلاب الكلية».

    وطلب السائل الأول بيان ما إذا كان يوجد من النصوص الشرعية والفقهية ما يؤيد اتجاهه، وطلب السائل الآخر بيان ما إذا كانت وصيته على هذا الوجه مقبولة من الناحية الشرعية، وإذا لم تكن مقبولة شرعًا، فهل هناك قانون وضعي يبيح هذه الوصية؟

     

    إن الوصية في اصطلاح فقهاء الشريعة الإسلامية تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، وبهذا المعنى تكون الوصية شرعًا جارية في الأموال والمنافع والديون، وقد عرفها قانون الوصية بأنها: تصرف في التركة مضاف لما بعد الموت، وبهذا فإن الإيصاء ببعض أجزاء الجسم كما جاء بالسؤال لا يدخل في نطاق الوصية بمعناها الاصطلاحي الشرعي؛ لأن جسم الإنسان ليس تركة، ولكنه يدخل في المعنى اللغوي للفظ الوصية؛ إذ هذا اللفظ يطلق بمعنى العهد إلى الغير في القيام بفعل الشيء حال حياة الموصي أو بعد وفاته، كما أن التبرع بجزء من الجسم حال الحياة، هل يجوز شرعًا باعتبار أن الإنسان صاحب التصرف في ذاته، أو غير جائز باعتبار أن هذه الإرادة ليست مطلقة بدليل النهي شرعًا عن قتل الإنسان نفسه؟ والذي أختاره أن كل إنسان صاحب إرادة فيما يتعلق بشخصه وإن كانت إرادة مقيدة بالنطاق المستفاد من قول الله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[١٩٥]﴾ [البقرة: 195]، وقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا[٢٩]﴾ [النساء: 29]، يدل [على] ذلك ما ساقه الفقهاء من نصوص في شأن الجهاد بالنفس وتعريضها بذلك للقتل، وما أوجبه الإسلام في شأن إنقاذ الغرقى والحرقى والهدمى، وما قد يترتب على ذلك من هلاك المجاهد أو المنقذ، فإذا جزم طبيب مسلم ذو خبرة أو غير مسلم -كما هو مذهب الإمام مالك- بأن شق أي جزء من جسم الإنسان الحي بإذنه وأخذ عضو منه أو بعضه لنقله إلى جسم إنسان آخر لعلاجه إذا جزم أن هذا لا يضر بالمأخوذ منه أصلا؛ إذ الضرر لا يزال بالضرر ويفيد المنقول إليه، جاز هذا شرعًا بشرط ألا يكون الجزء المنقول على سبيل البيع أو بمقابل؛ لأن بيع الإنسان الحر أو بعضه باطل شرعًا، وبعد هذا فإن السؤال المطروح هل يجوز شرعًا للإنسان التبرع أو الإيصاء ببعض أجزاء جسمه بعد الوفاة خدمة للمرضى المحتاجين كالكلى والقرنية وغيرهما أو لا يباح ذلك؟ لا جدال في أن الله سبحانه كرم الإنسان وفضله على كثير من خلقه، ونهى عن ابتذال ذاته ونفسه والتعدي على حرماته حيًا وميتا، وكان من مقاصد التشريع الإسلامي حفظ النفس كما تدل على ذلك الآيتان الكريمتان آنفا، ويدل على تكريم الإسلام للموتى من بني الإنسان ما شرع من التكفين والدفن وتحريم نبش القبور إلا لضرورة، كما يدل على هذا نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كسر عظم الميت بقوله: «كسر عظم الميت ككسره حيًا»، إذا كان الإسلام قد كرم الإنسان حيًا وميتا، فهل يجوز شق جسده بعد الوفاة؟ ومتى؟ حين نرجع إلى كتب الفقه الإسلامي التي بأيدينا نرى أن الفقهاء قد تحدثوا في باب الجنائز عن شق بطن من ماتت حاملا وجنينها حي، وما إذا مات الجنين في بطن أمه، وعن شق بطن الميت لاستخراج ما يكون قد ابتلعه من مال قبل وفاته، وفي هذا يقول فقهاء المذهب الحنفي: حامل ماتت وولدها حي يضطرب، شق بطنها من الجانب الأيسر ويخرج ولدها، ولو بالعكس بأن مات الولد في بطن أمه وهي حية، قطع وأخرج؛ وذلك لأنه متى بانت علامة غالبة على حياة الجنين في بطن الأم المتوفاة كان في شق بطنها وإخراجه صيانة لحرمة الحي وحياته، وهذا أولى من صيانة حرمة الميت، ولأن الولد إذا مات في بطن أمه الحية وخيف على حياتها من بقائه ميتا في بطنها ولم يمكن إخراجه دون تقطيع كان للقابلة إدخال يدها بآلة تقطعه بها وتخرجه؛ حفظا لحياة الأم، وفي شأن شق البطن لإخراج ما ابتلعه الميت من مال قالوا: إنه إذا ابتلع الإنسان مالا مملوكا له ثم مات فلا يشق بطنه لاستخراجه؛ لأن حرمة الآدمي وتكريمه أعلى من حرمة المال فلا تبطل الحرمة الأعلى للوصول إلى الأدنى، أما إذا كان المال الذي ابتلعه لغيره فإن كان في تركته ما يفي بقيمته، أو وقع في جوفه بدون فعله فلا يشق بطنه؛ لأن في تركته وفاء به، ولأنه إذا وقع في جوفه بغير فعله لا يكون متعديا، أما إذا ابتلعه قصدا فإنه يشق بطنه لاستخراجه؛ لأن حق الآدمي صاحب المال مقدم في هذه الحال على حق الله تعالى سيما وهذا الإنسان صار متعديا ظالما بابتلاع مال غيره، فزالت حرمته بهذا التعدي، وفي فقه الشافعية أنه إن ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي شق بطنها؛ لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت، وهذا إذا رجي حياة الجنين بعد إخراجه، أما إذا لم ترجح حياته: ففي قول لا تشق بطنها ولا تدفن حتى يموت، وفي قول تشق ويخرج.

    وعن ابتلاع الميت المال قالوا: وإن بلع الميت جوهرة لغيره وطالب بها صاحبها شق جوفه وردت الجوهرة، وإن كانت الجوهرة له ففيه وجهان:

    أحدهما: يشق؛ لأنها صارت للورثة فهي كجوهرة الأجنبي.

    والثاني: لا يجب؛ لأنه استهلكها في حياته فلم يتعلق بها حق الورثة.

    وفي فقه المالكية أنه يشق بطن الميت؛ لاستخراج المال الذي ابتلعه حيًا سواء كان المال لله أو لغيره، ولا يشق لإخراج جنين وإن كانت حياته مرجوة.

    ويقول فقه الحنابلة: إن المرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد يتحرك فلا يشق بطنها، ويخرجه القوابل من المحل المعتاد، وإن كان الميت قد بلع مالا حال حياته فإن كان مملوكا له لم يشق؛ لأنه استهلكه في حياته إذا كان يسيرا، وإن كثرت قيمته شق بطنه واستخرج المال؛ حفظا له من الضياع ولنفع الورثة الذين تعلق به حقهم بمرضه، وإن كان المال لغيره وابتلعه بإذن مالكه فهو كحكم ماله؛ لأن صاحبه أذن في إتلافه، وإن بلعه غصبا ففيه وجهان:

    أحدهما: لا يشق بطنه، ويقوم من تركته.

    والثاني: يشق إن كان كثيرا؛ لأن فيه دفع الضرر عن المالك برد ماله إليه، وعن الميت بإبراء ذمته، وعن الورثة بحفظ التركة لهم.

    وفي فقه الزيدية أن المرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد حي شق بطنها واستخرج الولد؛ لقوله عز وجل: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32]، وذلك بشرائط أن يكون الولد قد بلغ وقتا ومدة يعيش إذا أخرج حيًا، وأن يكون الشاق بصيرا بإخراجه، وأن يكون هناك من يكفله ويقوم به إذا خرج حيًا، ويروي صاحب الروض النضير عن الحسن بن زياد قال: «كنت عند أبي حنيفة فجاءه رجلان على حمارين فسلما عليه ثم مضيا فقال لي أبو حنيفة: أتدري من هذا -يعني أحدهما- فقلت: لا، فقال: هذا ماتت أمه وهي حامل به فجاءوا فسألوني عن امرأة ماتت وفي بطنها ولد حي فقلت: الحقوا الساعة فشقوا بطنها وأخرجوا الولد، قال: فهذا هو».

    وينص فقه الشيعة الإمامية على أنه: إذا مات ولد الحامل قطع وأخرج، ولو ماتت هي دونه يشق جوفها من الجانب الأيسر وأخرج، وفي رواية يخاط بطنها.

    وخلاصة ما تقدم: أن فقه مذهبي الإمامين أبي حنيفة والشافعي يجيز شق بطن الميت سواء لاستخراج جنين حي، أو لاستخراج مال، وأن فقه مذهبي مالك وأحمد بن حنبل: الشق في المال دون الجنين.

    والذي أختاره في هذا الموضع هو ما ذهب إليه فقهاء الحنفية والشافعية من جواز شق بطن الميت لمصلحة راجحة سواء كانت لاستخراج جنين حي أو مال للميت أو لغيره إذا كان ذا قيمة معتد بها عرفا ينتفع بها الورثة أو تقضى به ديونه، وأما الحديث الشريف الذي رواه البيهقي في السنن الكبرى كما روي في سنن أبي داود وسنن ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كسر عظم الميت ككسره حيًا»، فالظاهر أن معناه أن للميت حرمة وكرامة كحرمة الحي، فلا يعتدى على جسمه بكسر عظم أو غير هذا مما فيه ابتذال له لغير ضرورة أو مصلحة راجحة، وهذا المعنى ظاهر مما ذكره المحدثون في بيان سبب الحديث من أن الحفار الذي كان يحفر للغير أراد كسر عظم إنسان دون أن تكون هناك مصلحة في ذلك. البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف جزء2 صفحة64.

    وبهذا المفهوم يتفق الحديث مع مقاصد الإسلام المبنية على رعاية المصالح الراجحة، وبحمل الضرر الأخف لجلب مصلحة تفويتها أشد، وفي استدلال الفقه الزيدي بالآية الكريمة: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32]، إشارة إلى العمل بهذه الرخصة التي ارتآها فقهاء مذاهب الحنفية والزيدية والشافعية والشيعة الإمامية كما تقدم في النقل عنهم، وإذ قد انتهينا إلى اختيار جواز شق بطن الميت لاستخراج ما ابتلعه من مال أو لاستخراج جنين حي ترجى حياته، فهل يجوز هذا شرعًا لأخذ جزء من جسم الميت وإضافته إلى جسم إنسان حي على سبيل العلاج والدواء أو لا يحل هذا؟ أو بعبارة أخرى: هل يحل شرعًا نقل جزء من جسم إنسان ميت إلى جسم إنسان حي بقصد علاج هذا الأخير أو لا يحل؟ وتقدمة للإجابة على هذا التساؤل يتعين التعرف على حكم الإسلام على الإنسان بعد الموت، هل جسده ميتة نجس كسائر الميتات؟ وهل ما ينفصل منه حال حياته يصير ميتة نجسا كذلك؟ يقول الإمام النووي الشافعي في كتابه المجموع شرح المهذب في بيان الجلود النجسة: إن الصحيح في المذهب أن الآدمي لا ينجس بالموت لكن لا يجوز استعمال جلده ولا شيء من أجزائه بعد الموت؛ لحرمته وكرامته، وإن قولا ضعيفا في المذهب قد قال بنجاسة الآدمي بالموت.

    وفي الفقه الحنفي أن الآدمي ينجس بالموت، ثم اختلف فقهاء المذهب، هل هي نجاسة خبث باعتباره حيوانا دمويا فيتنجس بالموت كسائر الحيوانات، أو هي نجاسة حدث يطهر بالغسل كالجنب والحائض؛ إعمالا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه كما جاء في فتح القدير للكمال بن الهمام «سبحان الله المؤمن لا ينجس حيًا ولا ميتا»، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن ليس بنجس حيًا ولا ميتا». أخرجه الحاكم والدارقطني مرفوعا كل بسنده.

    والأظهر في الفقه المالكي أن الآدمي الميت ولو كافرا طاهر، كما جاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي في بيان الأعيان الطاهرة والنجسة أن ما انفصل منه حيًا أو ميتا طاهر.

    كذلك والصحيح عند الحنابلة كما جاء في المغني لابن قدامة في بيان ما ينجس به الماء أن الآدمي طاهر حيًا وميتا ومقابل الصحيح أنه ينجس بالموت ويطهر بالغسل، ويرى فقه الزيدية أن جسد الآدمي المسلم طاهر حيًا أو ميتا، وأن ما يلحقه هو الحدث الأكبر أو الأصغر»، ويقول ابن حزم في كتابه المحلى: إن كل ما قطع من المؤمن حيًا أو ميتا طاهر.

    ومن هذا العرض الوجيز نرى أن كلمة الفقه الشافعي والمالكي والحنبلي والزيدي والظاهري متفقة على أن الصحيح أن جسد الإنسان المسلم طاهر حيًا وميتا، وإذا أخذنا من الفقه الحنفي القول بأن النجاسة بعد الموت إنما هي نجاسة حدث لا خبث وتطهر بالغسل كالجنب والحائض فإن رأي هذه المذاهب يكاد يتفق على طهارة جسد المؤمن بعد الموت وعلى طهارة ما انفصل منه حال الحياة كذلك، ثم ننتقل بعد هذا البحث في أقوال الفقهاء عما إذا كان يحل قطع جزء من جسم إنسان حي أو ميت ونقله إلى جسم إنسان حي لعلاجه أو بديلا لجزء تالف في جسد هذا الأخير أو لا يحل ذلك؟ يقول الفقه المالكي كما جاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: «إذا سقطت السن جاز ردها وربطها بشريط من ذهب أو من فضة، وإنما جاء ردها لأن ميتة الآدمي طاهرة، وكذا يجوز أن يرد بدلها سنا من حيوان مذكى، وأما من ميتة فقولان بالجواز والمنع، وعلى الثاني فيجب قلعها في كل صلاة ما لم يتعذر عليه قلعها وإلا فلا، وفي الفقه الحنفي نقل العلامة ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر المختار في الجزء الأول في بيان حكم الوشم عن خزانة الفتاوى في مفسدات الصلاة «كسر عظم فوصل بعظم كلب ولا ينزع إلا بضرر جازت الصلاة»، وفي بدائع الصنائع للكاساني في أواخر كتاب الاستحسان: «ولو سقط سنه يكره أن يأخذ سن ميت فيشدها مكانها بالإجماع، وكذا يكره أن يعيد تلك السن الساقطة مكانها عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-، ولكن يأخذ سن شاة ذكية فيشدها مكانها، وقال أبو يوسف -رحمه الله-: لا بأس بسنه ويكره سن غيره»، ونقل صاحب البحر الرائق في كتاب الحظر والإباحة عن الذخيرة: «رجل سقط سنه فأخذ سن الكلب فوضعه في موضع سنه فثبتت لا يجوز ولا يقلع، ولو أعاد سنه ثانيًا وثبت قال: ينظر إن كان يمكن قلع سن الكلب بغير ضرر يقلع، وإن كان لا يمكن إلا بضرر لا يقلع».

    وفي الفقه الحنبلي قال ابن قدامة في المغني في الجنائز: «وإن جبر عظمه بعظم فجبر ثم مات لم ينزع إن كان طاهرا، وإن كان نجسا فأمكن إزالته من غير مثلة أزيل؛ لأنه نجاسة مقدور على إزالتها من غير ضرر».

    وفي الفقه الشافعي كما جاء في المجموع للنووي في باب طهارة البدن «إذا انكسر عظمه فينبغي أن يجبره بعظم طاهر، قال أصحابنا: ولا يجوز أن يجبره بنجس مع قدرته على طاهر يقوم مقامه، فإن جبره بنجس نظر إن كان محتاجا إلى الجبر ولم يجد طاهرا يقوم مقامه فهو معذور، وإن لم يحتج إليه أو وجد طاهرا يقوم مقامه أثم ووجب نزعه إن لم يخف منه تلف نفسه ولا تلف عضو، ولم يوجد أحد الأعذار المذكورة في التيمم، فإن لم يفعل أجبره السلطان ولا تصح صلاته معه ولا يعذر بالألم [الذي يجده] إذا لم يخف منه، وسواء أكتسى العظم لحما أم لا، هذا هو المذهب، وهناك قول: إنه إذا اكتسى العظم لحما لا ينزع وإن لم يخف الهلاك حكاه الرافعي ومال إليه إمام الحرمين والغزالي وهو مذهب أبي حنيفة ومالك: وإن خاف من النزع هلاك النفس أو عضو، أو فوات منفعة عضو لم يجب النزع على الصحيح من الوجهين» ثم قال في مداواة الجرحى بدواء نجس وخياطته بخيط نجس كالوصل بعظم نجس: «ولو انقلعت سنه فردها موضعها قال أصحابنا العراقيون: لا يجوز؛ لأنها نجسة، وهذا بناء على طريقتهم: إن عضو الآدمي المنفصل في حياته نجس وهو المنصوص عليه في الأم ولكن المذهب طهارته وهو الأصح عند الخراسانيين، فلو تحركت سنه فله أن يربطها بفضة وذهب وهي طاهرة بلا خلاف».

    وفي استبدال جزء من جسم الإنسان بالذهب ورد حديث عرفجة بن أسعد الذي أصيبت أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من فضة فأنتن، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب، وقد أخذ بهذا الحديث فقهاء الحنفية في باب الحظر والإباحة، وفقهاء الحنابلة، كما نقله ابن قدامة في غير موضع من كتابه المغني، وفقهاء الشافعية، فقد ورد للنووي في باب الآنية وغيره، ونص الشافعية على أنه يحل لمن ذهبت سنه أو أنملته أن يتخذ بديلا لها من الذهب؛ إمضاء لحديث عرفجة سواء أمكنه اتخاذ ذلك من فضة أم لا، واختلفت كلمتهم فيمن ذهبت أصبعه أو كفه أو قدمه هل له أن يتخذها من فضة أو من ذهب بين محرم ومبيح.

    وفي جواز أكل لحم الآدمي عند الضرورة قال فقهاء الحنفية -على ما جاء في الدر المختار للحصكفي وحاشية رد المحتار لابن عابدين في الجزء الخامس-: «إن لحم الإنسان لا يباح في حال الاضطرار ولو كان ميتا لكرامته المقررة بقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، وكذلك لا يجوز للمضطر قتل إنسان حي وأكله ولو كان مباح الدم كالحربي والمرتد والزاني المحصن؛ لأن تكريم الله لبني آدم متعلق بالإنسانية ذاتها فتشمل معصوم الدم وغيره»، وبهذا أيضًا يقول الظاهرية بتعليل آخر غير ما قال به الحنفية، ويقول الفقه المالكي: إنه لا يجوز أن يأكل المضطر لحم آدمي، وهذا أمر تعبدي، وصحح بعض المالكية أنه يجوز للمضطر أكل الآدمي إذا كان ميتا بناء على أن العلة في تحريمه ليست تعبدية وإنما لشرفه، وهذا لا يمنع الاضطرار على ما أشار إليه في الشرح الصغير بحاشية الصاوي في الجزء الأول، وأجاز الفقه الشافعي والزيدي أن يأكل المضطر لحم إنسان ميت بشروط منها ألا يجد غيره، كما أجاز للإنسان أن يقتطع جزء نفسه كلحم من فخذه ويأكله استبقاء للكل بزوال البعض، كقطع العضو المتآكل الذي يخشى من بقائه على بقية البدن، وهذا بشرط ألا يجد محرما آخر كالميتة مثلا، وأن يكون الضرر الناشئ من قطع الجزء أقل من الضرر الناشئ من تركه الأكل، فإن كان مثله أو أكثر فلم يجزئ قطع الجزء، ولا يجوز للمضطر قطع جزء من آدمي آخر معصوم الدم، كما لا يجوز للآخر أن يقطع جزءا من جسده ليقدمه للمضطر لأكله.

    وفي الفقه الحنبلي أنه لا يباح للمضطر قتل إنسان معصوم الدم ليأكله في حال الاضطرار ولا إتلاف عضو منه مسلما كان أو غير مسلم، أما الإنسان الميت ففي إباحة الأكل منه في حال الضرورة قولان: أحدهما: لا يباح.
    والآخر: يباح الأكل منه؛ لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت.

    قال ابن قدامة في المغني: «إن هذا القول هو الأولى».

    ونخلص مما سلف إلى أن فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة قد صرحوا بأنه إذا كسر عظم الإنسان فينبغي جبره بعظم طاهر على حد تعبير الشيرازي الشافعي في المهذب، وأنه لا يجوز جبره بعظم نجس إلا عند الضرورة كما إذا لم يوجد سواه، وأنه يجوز رد السن الساقطة إلى مكانها وربطها بالفضة أو الذهب، كما يجوز استبدالها بسن حيوان مذكى، ونص الفقه الحنفي على أنه لو وصل عظم إنسان بعظم كلب ولا ينزع إلا بضرر جازت الصلاة معه، وهذا النوع وأمثاله من فروع الحنفية يتخرج عليه أنه: إذا قضت الضرورة بوصل العظم المكسور بعظم نجس فلا حرج في ذلك ولا إثم، بدليل إجازة الصلاة ما دام يتعذر نزعه إلا بضرر، كما نخلص إلى أن جسم الإنسان الميت طاهر، وما انفصل منه حال حياته كذلك طاهر، وإلى جواز شق بطن الآدمي الميت لاستخراج جنين حي ترجى حياته أو مال ابتلعه قبل وفاته على الاختلاف بين فقهاء المذاهب كما تقدم بيانه، وإلى أنه يجوز اضطرارا أكل لحم إنسان ميت في قول فقهاء الشافعية والزيدية وقول في مذهب المالكية والحنابلة، ويجوز أيضًا عند الزيدية والشافعية أن يقطع الإنسان من جسمه فلذة ليأكلها حال الاضطرار بالشروط السابق الإشارة إليها، ويجوز وصل عظم الإنسان المكسور بعظم طاهر على نحو ما تقدم أيضًا في سنده الفقهي وتخريجا على ذلك وبناء عليه يجوز شق بطن الإنسان الميت وأخذ عضو منه أو جزء من عضو لنقله إلى جسم إنسان حي آخر يغلب على ظن الطبيب استفادة هذا الأخير بالجزء المنقول إليه رعاية للمصلحة الراجحة التي ارتآها الفقهاء القائلون بشق بطن التي ماتت حاملا والجنين يتحرك في أحشائها وترجى حياته بعد إخراجه، وإعمالا لقاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف التي سندها الكتاب الكريم والسنة الشريفة، فإن من تطبيقاتها كما تقدم جواز الأكل من إنسان ميت عند الضرورة؛ صونا لحياة الحي من الموت جوعا المقدمة على صون كرامة الميت؛ إعمالا لقاعدتي: اختيار أهون الشرين، وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما، وإذا جاز الأكل من جسم الآدمي الميت (ضرورة) جاز أخذ بعضه نقلا لإنسان آخر حي؛ صونا لحياته متى رجحت فائدته وحاجته للجزء المنقول إليه.

    هذا عن الإنسان الميت، أما عن الإنسان الحي واقتطاع جزء منه فقد تقدمت الإشارة إلى أن فقه كل من الشافعية والزيدية يجيز أن يقتطع الإنسان الحي جزء نفسه ليأكله عند الضرورة بشرط ألا يجد مباحا ولا محرما آخر يأكله ويدفع به مخمصته، وأن يكون الضرر الناشئ من قطع جزئه أقل من الضرر الناشئ من تركه الأكل، ومتى كان الحكم هكذا فإنه يجوز تخريجا عليه القول بجواز تبرع إنسان حي بجزء من جسده لا يترتب على اقتطاعه ضرر به متى كان مفيدا لمن ينقل إليه في غالب ظن الطبيب؛ لأن للمتبرع كما تقدم نوع ولاية على ذاته في نطاق الآيتين الكريمتين: ﴿... وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ...﴾ [النساء: 29]، ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، ولا يباح أي جزء، بل الجزء أو العضو الذي لا يؤدي قطعه من المتبرع إلى عجزه أو إلى تشويهه، وبهذا المعيار يكون حكم نقل الدم من إنسان لآخر، وإذ قد انتهى الرأي إلى إجازة شق جسم الميت أو تشريحه لأخذ عضو أو جزء منه، وجواز نقله إلى جسم إنسان حي يستفيد به، وإلى جواز تبرع إنسان حي بأخذ عضو منه أو جزء، وجواز نقل هذا إلى إنسان آخر حي بالشروط سالفة الإشارة، فإنه يمكن إيجاز الإجابة على الأسئلة المرددة في هذا الموضع على الوجه التالي: إنه يجوز نقل عضو أو جزء عضو من إنسان حي متبرع لوضعه في جسم إنسان حي بالشروط الموضحة آنفا، ومن هذا الباب أيضًا نقل الدم من إنسان لآخر بذات الشروط، ويحرم اقتضاء مقابل للعضو المنقول أو جزئه، كما يحرم اقتضاء مقابل للدم؛ لأن بيع الآدمي الحر باطل شرعًا؛ لكرامته لنص القرآن الكريم، وكذلك جزؤه، ويجوز كذلك أخذ جزء من إنسان ميت ما دام قد غلب على ظن الطبيب استفادة هذا الأخير بهذا النقل باعتباره علاجا ومداواة، وذلك بناء على ما تقدم من أسس فقهية، ويكون قطع العضو أو قطع جزئه من الميت إذا أوصى حي بذلك قبل وفاته أو بموافقة عصبته بترتيب الميراث إذا كانت شخصية المتوفى المأخوذ منه معروفة وأسرته وأهله معروفين، أما إذا جهلت شخصيته أو عرفت وجهل أهله فإنه يجوز أخذ جزء من جسده نقلا لإنسان حي آخر يستفيد به في علاجه، أو تركه لتعليم طلاب كليات الطب؛ لأن في كل ذلك مصلحة راجحة تعلو على الحفاظ على حرمة الميت، وذلك بإذن من النيابة العامة التي تتحقق من وجود وصية أو إذن من صاحب الحق من الورثة أو إذنها هي في حالة جهالة شخص المتوفى أو جهالة أسرته، ولا يقطع جزء من ميت إلا إذا تحققت وفاته، والموت كما جرى بيانه في كتب الفقه هو زوال الحياة، وعلامته: إشخاص البصر وأن تسترخي القدمان وتنعوج الأنف وينخسف الصدغان وتمتد جلدة الوجه فتخلو من الانكماش، وفي نطاق هذا يجوز اعتبار الإنسان ميتا متى زالت مظاهر الحياة منه وبدت هذه العلامات الجسدية، وليس ما يمنع من استعمال أدوات طبية للتحقق من موت الجهاز العصبي، لكن ليس هذا وحده آية الموت بمعنى زوال الحياة، بل إن استمرار التنفس وعمل القلب والنبض كل أولئك دليل على الحياة، وإن دلت الأجهزة الطبية على فقدان الجهاز العصبي لخواصه الوظيفية فإن الإنسان لا يعتبر ميتا بتوقف الحياة في بعض أجزائه، بل يعتبر كذلك شرعًا وتترتب آثار الوفاة من تحقق موته كلية، فلا تبقى فيه حياة ما؛ لأن الموت زوال الحياة، ويمتنع تعذيب المريض المحتضر باستعمال أي أدوات أو أدوية متى بان للطبيب أن هذا كله لا جدوى منه وأن الحياة في البدن في سبيل التوقف؛ وعلى هذا فلا إثم إذا أوقفت الأجهزة التي تساعد على التنفس وعلى النبض متى بان للمختص القائم بالعلاج أن حالة المحتضر ذاهبة به إلى الموت.

    ولعله من التتمة بيان حكم ما قد يثار عن المفاضلة بين عدد من المرضى الذين تساوت حالتهم المرضية في ضرورة نقل عضو أو نقل دم أو إعطائه دواء، حالة أن الموجود هو عضو واحد أو كمية من الدم لا تكفي لإنقاذ الجميع، فهل تجوز المفاضلة بين المرضى في هذه الحال المتعلقة بأمور الحياة والموت، أم ماذا؟ ولا مراء في أن الآجال موقوتة عند الله سبحانه وتعالى، وأمر غيبي لا يصل إليه علم الإنسان، وأن المرض ليس دائما علامة على قرب الأجل أو على حتمية الموت عقبه، وغلبة الظن أساس شرعي تقوم عليه بعض الأحكام، فإذا غلب على ظن الطبيب المختص بحكم التجربة والممارسة وبشرط إجادته وحذقه مهنة الطب أن أحد هؤلاء المرضى يفيده هذا العضو أو تلك الكمية من الدم أو الدواء كان له إيثاره بذلك باعتبار أن العلامات والقرائن قد أكدت انتفاعه بهذا العضو أو بالدم إذا نقل إليه، أما إذا لم يغلب على ظن الطبيب ذلك بقرائن وعلامات مكتسبة من الخبرة والتجربة، فإن الإسلام قد أرشد إلى استخدام القرعة طريقا لاستبانة المستحق عند التساوي في سبب الاستحقاق وانعدام أوجه المفاضلة الأخرى، وهذه القرعة قد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور كثيرة منها الإقراع لمعرفة من ترافقه من نسائه -أمهات المؤمنين- في سفره.

    والله سبحانه وتعالى أعلم.

    المبادئ 1- الإيصاء ببعض أجزاء الجسم لا يدخل في نطاق الوصية بمعناها الشرعي.

    2- إرادة الإنسان بالنسبة لشخصه مقيدة بعدم إهلاك نفسه.

    3- يجوز نقل عضو أو جزء عضو من إنسان حي متبرع لوضعه في جسم إنسان.

    4- يكون قطع العضو أو جزئه من الميت إذا أوصى بذلك قبل وفاته، أو بموافقة عصبته، وهذا إذا كانت شخصيته وأسرته معروفة، وإلا فبإذن النيابة العامة.

    5- يمتنع تعذيب المريض المحتضر باستعمال أي أدوات أو أدوية متى بان للطبيب أن هذا كله لا جدوى منه.

    6- عند تزاحم المرضى على ضرورة نقل عضو أو دم إليهم بينما الموجود عضو واحد أو كمية دم لا تكفي إلا لواحد منهم يكون للطبيب إيثار بعضهم بذلك إذا غلب على ظنه انتفاع ذلك المريض به، وإلا تجرى القرعة بينهم في ذلك.

    بتاريخ: 5/12/1979

    دار الإفتاء المصرية

    رقم الفتوى: 274 س:113 تاريخ النشر في الموقع : 12/12/2017

    المفتي: جاد الحق علي جاد الحق
    تواصل معنا

التعليقات